أخيراً عاد والتأم مجلس النواب العراقي بعد سبعة أشهر من انتخابه وبعد مخاض عسير وفي سابقة في تاريخ البرلمانات في العالم، ليشرع في انتخاب الرؤساء الثلاث. بدون شك فـإن هذا الالتئام يشكل بارقة أمل وفرح للعراقيين، ويعد خطوة وبداية مهمة وذات ذات دلالة. فالقرار في الشروع بإدارة عجلة الدولة اتخذ في العراق وفي بغداد عاصمة بلدنا الحبيبة تحديداً، وليس في أية عاصمة ودولة أخرى خلافاً لما طمح إليه العديد من نوابنا الذين انتخبهم الشعب ليحلوا مشاكله.
فقد راهن بعض السياسيين عندنا على أن تحل قطر والرياض ودمشق وعمان وأنقرة وطهران، بل وحتى ذهب البعض منهم إلى جمهورية البوسنا والهرسك الغارقة في مشاكلها لحل معضلات العراقيين وحل الاستعصاء في العملية الدستورية. ولكن خاب ظنهم وخابت كل هذه التطلعات والجولات المكوكية التي أدت إلى الهدر في المال والوقت وتجاهل رأي الناخب العراقي الذي انتخبهم. نعم كل هذا الجهد غير المجدي ذهب مع الريح ولم يحل مشاكلنا. وهنا وبعد إصرار بعض السياسيين على حل مشاكلنا خارج العراق تحرك الرأي العام العراقي وأخذ دوره ليضغط وليحبط مساعي بعض السياسيين لتهميش دور العراقيين وتجاهل دور الناخب العراقي. وحلت الإدانة على كل من يسعى إلى وضع كل بيض العراقيين في سلة قوى خارجية بعيدة عن فهم واقعنا وتعقيداته، بل وأنبعضها لا يريد الخير والسلام للعراقيين. فما زال البعض يحلم بأن يكون اللاعب الرئيس في المشهد العراقي، ويوجه الأوامر ويخشى العملية السياسية، ويفتح حدوده لقوى الموت والخراب. وكان آخرما أبدعوه هو تفجير المصلين والمؤمنين في كنيسة سيدة النجاة، وما تلاه من عبث دموي غير مجدي في بغداد والنجف وكربلاء وحديثة وكركوك. هذه الأفعال الشريرة تدل دلالة واضحة أن فرق الموت والدمار لا تفرق بين العراقيين، فهم متساوون عندهم حق المساواة في القتل والخراب والدمار.
ولكن لهذه الخطوة الناجحة الأولى على طريق البناء والاستقرار المتمثلة في عقد جلسات مجلس النواب، على أهميتها في تطويق محاولات نسف العملية السياسية من الخارج أو من داخلها، إلاّ أنها قد تزيد من المحاولات المحمومة والفاشلة لأعداء العراق وأعداء الديمقراطية في عرقلة هذه المسيرة والتدخل في الشؤون الداخلية للعراق، وردع العراقيين واكراههم على التخلي عن تحقيق طموحاتهم في بناء عراق ديمقراطي اتحادي يضمن الحريات للجميع دون تمييز ديني وقومي وطائفي وجنسي. وفي هذا الإطار لا بد أن نشير إلى مغزى ما أعترى جلسة مجلس النواب من تعكير يوم الخميس الماضي، ومن محاولات لأفشال الاتفاقات والتسويات بين الكتل السياسية لنسف العملية برمتها من داخلها بعد أن فشلوا في نسفها من خارجها.
فبعد أن وفى الجميع بالاتفاق على انتخاب رئيس مجلس النواب السيد أسامة النجيفي ونائبيه، وحان موعد انتخاب رئيس الجمهورية ليكلف الرئيس الجديد للوزارة العراقية، شاهد العراقيون ومن على شاشات التلفزه أول بوادر المحاولة الانقلابية لأجهاض انتخاب الرئيسين الآخرين، رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، بهدف الاستحواذ على السلطة التشريعية. إن كثل هذا المشهد الانقلابي لا يمكن أن يمر في مجلس النواب دون أن يعد له مسبقاً. فقد حدد لكل شخص من شخوص التيار المتطرف في القائمة العراقية دوره. وبدأت العملية الإنقلابية من قبل هذا التيار بواسطة قواه الضاربة محمد تميم وحيدر الملا لمنع الاستمرار بانتخاب رئيس الجمهورية بذرائع واهية، وخلافاً لما اتفق عليه ممثلو القائمة العراقية نفسها. ولكن هذه المحاولة لم تحض إلاً بأكثر بقليل من خمسين صوتاً من ممثلو القائمة العراقية التي يبلغ عدد ممثليها 91 نائباً، مما أفشل هذه المحاولة الانقلابية. وشهد مجلس النواب انشقاقاً ملحوظاً بين مؤيد للمحاولة الانقلابية وبين معارض لها من داخل القائمة العراقية نفسها، مما حدى بالبعض من المتطرفين إلى الانسحاب وتوجيه اللوم إلى رئيس مجلس النواب الجديد السيد أسامة النجيفي الذي أعلن أنه رئيس مجلس النواب العراقي وليس ممثل العراقية.
إن هذا السلوك المريب المعرقل للعملية السياسية من قبل أطراف ما زالت تتغزل بالبعث والعنف والتطرف ضمن تشكيلة القائمة العراقية هو ليس بالجديد. ففي الدورة السابقة انسحب بعض ممثلي القائمة من الحكومة بهدف انقلابي مماثل للأجهاز على العملية الديمقراطية وفتح أبواب جهنم على العراقيين. كما كانوا وإلى الآن يعلنون الويل والثبور في حالة عدم تسلطهم بشكل غير ديمقراطي على الحكم، وعدم إرجاع فلول الحكم البعثي السابق ورموزه واطلاق سراحهم ورد التهم الموجهة ضدهم.. وساهمت رموز متطرفة في القائمة العراقية الحالية في الدورة السابقة بالتستر على مجرمين من أمثال محمد الدايني وعبد الناصر الجنابي وأسعد الهاشمي وتسهيل هروبهم.. ووقف هؤلاء المتطرفون في القائمة العراقية أمام كل مسعى للحوار الجاد وللعمل السليم لمجلس النواب والرقابة على الحكومة ومعالجة أخطائها. وكانت هذه الأطراف المتطرفة ملتزمة على الدوام بالتغطية على نشاط قوى الارهاب والعنف والقتل من فلول البعث وحلفائهم من التيارات الدينية وأمراء الإرهاب والذين طالت شرورهم حتى عناصر معتدلة في القائمة العراقية. وكان هدف هذه القوى المتطرفة على الدوام هو التغطية على الفاعلين الحقيقيين لموجات القتل والإبادة الجماعية للعراقيين وتضليل الرأي العام حول الفاعل الحقيقي.
وبعد الانتخابات الأخيرة كرر متطرفون في القائمة العراقية العراقيين وعيدهم وعبر تصريحات نارية سمعها العراقيون والعالم ببئس الأيام وبحمامات الدم إن لم تسلم السلطة للقائمة العراقية خلافاً للعرف النيابي والانتخابي . إن هذا التشبث بالمسار الانقلابي لهذا التيار المتطرف في كتلة العراقية ينبع من صلب مفهوم حزب البعث للعمل السياسي والقائم على الانقلابات العسكرية، وليس اللجوء إلى صناديق الانتخابات ومبدأ فصل السلطات. فحزب البعث كما تؤكد وثائقه ومنظريه حزب انقلابي، حيث لم يستلم السلطة في العراق عبر إرادة المواطن العراقي بل عبر الجماجم التي يتغنون بها عبر اشعارهم وأناشيدهم. إن هذا التيار القومي المتطرف يقف وراء كل ما ما عاناه العراقيون خلال العقود الماضية حيث تحول العراق إلى ميدان للحروب والإبادة والأسلحة الكيمياوية والفساد والتشويه في الثقافة والوعي. ويمثل هؤلاء الآن رأس الحربة ضد تطلعات العراقيين في بناء دولة ديمقراطية. فحزب البعث يقف وراء كل الأعمال الإرهابية التي تجري في العاصمة وفي محافظة ديالى والموصل والأنبار تحت واجهات دينية عديدة كاذبة من قبيل دولة العراق الإسلامية أو الطريقة النقشبندية أو أنصار السنة وما شاكلها، وما هم في الواقع سوى أمراء من ضباط مخابرات وأجهزة القمع التابعة للعهد السابق.
وتوزعت أدوار هذه الزمر بين النشاط المسلح والإرهابي وبين المشاركة في العملية السياسية، خلافاً لدعواتهم بمقاطعة العملية الانتخابية. فقد شاركوا بنشاط في كل مراحل الانتخابات التي جرت في العراق. وكان هدف المشاركة عرقلة نجاح العملية السياسية من ناحية، ومن ناحية أخرى استغلال الحصانة التي توفرها العملية السياسية للتستر على النشاط الإرهابي واستغلال هذه المشاركة للحصول على المعلومات بهدف المزيد من إيذاء العراقيين. ولنا في مثال الدايني النائب في كتلة صالح المطلق المشارك الحالي في القائمة العراقية خير مثال على مسعى فلول البعث لإحداث انقلابهم الفاشل.
إن على القوى الوطنية والمعتدلة والمعارضة للعنف من أطراف القائمة العراقية أن تتحلى باليقظة والوعي والمسؤولية الوطنية لعزل هذا التيار المتطرف وفضحه من أجل مستقبل العملية لديمقراطية في العراق وحماية الانسان العراقي من القتل والترهيب والوعيد الذي تتحمل وزره أطراف متطرفة في القائمة العراقية، إضافة إلى الحفاظ على القائمة العراقية كقائمة علمانية ضمن هذه الموجة من استغلال الدين في المناورات السياسية. فهذا الموقف المعتدل والمسؤول من قبل أطراف في القائمة العراقية من شأنه لجم كل أشكال التطرف والإكراه لدى أطراف طائفية أخرى ومن ألوان شتى. فالتوجه نحو نشر فضاء سليم من التنافس السلمي من أجل انتشال العراق من دائرة التخلف والدمار الذاتي والإرهاب والفساد والطائفية والتطرف القومي ونشر السلام في ربوعه يتطلب من التيار المعتدل في القائمة العراقية فرز نفسها عن حمى التطرف الذي يتمسك به بها بعض المتطرفين في القائمة العراقية.
أما أحلام الانقلابات عسكرية كانت أو إرهابية أو غيرها وفي ظل الوضع الملموس الجديد في العراق لا يكتب لها إلاّ الفشل. فعلى جميع من يحلم بالانقلابات من شتى الألوان وبمن فيهم المتورطين بأعمال القتل والتخريب أن يعوا عقم هذه الأساليب مهما ألحقت الخراب والأذى بالعراقيين، فإنها لا تتمتع بأرضية شعبية واجتماعية بعد أن خبر العراقيون آثارها المدمرة قبل سقوط النظام السابق وخلال سنوات سفك الدماء بعد الإطاحة بالاستبداد. إن أمام هؤلاء طريق واحد هو القبول بالواقع العراقي الجديد واللجوء إلى صناديق الانتخابات بدلاً من التوسل بالعبوات الناسفة التي لا تمهد إلى انقلاب ولا إلى تغيير في الحكم. كما يتوجب على المتطرفين من نواب الشعب أن يتخلوا عن الأساليب الفوضوية ومقاطهة جلسات المجلس والتفنن بالتراشق الكلامي غير اللائق، ويمارسوا التنافس الشريف السياسي في أروقة مجلس النواب بعيداً عن المؤآمرات أو التوسل بالعامل الخارجي. كما يجب أن يقتصدوا بسفراتهم المكوكية إلى حكام الجوار وتصريحاتهم التحريضية ضد بلدهم وبذر بذور العداء بين أبناء الوطن الواحد.
13/11/2010